top of page
Search

التعليم باللغات الأجنبية،ضرورة حضارية أم شَرَكُ للهُويَّة؟


تعيش أمتنا العربية أزمةً حضاريةً ممتدةً في الزمان والمكان، وشاملةً لمجالات الإبداع الإنساني؛ في الفن والأدب، والرياضة والعمل الاجتماعي والأهلي، والاقتصاد والسياسة، وغيرها من المجالات، ولا تقتصر فقط على التقدُّم التقني والعلمي كما قد يظن البعض. والمؤشرات التي تطلقها الدراسات ومنظمات الرصد الدولية، علاوة على الشواهد، جُلُّها يؤكد ذلك.

وتُعَد أزمتنا الحضارية أزمةَ وجود تتقاذفها وتطحنها صراعاتُ كبرى، وأزمة هوية في زمن العولمة؛ حيث يسعى القوي لإذابة الضعيف وتبديد هويته وطمس معالمه وامتصاص خيراته، وأزمة ثقة في القدرة على البقاء والمنافسة، ناهيك عن القيادة! أزمة أهم أعراضها التيه (ضياع البوصلة) والانبهار بالآخر وانسحاق الإرادة؛ وما كل ذلك إلا الثمار المرة لشجرة الجهل الخبيثة؛ جهل بالذات وبالآخر، جهل بالممكن وبالمأمول، جهل بالواجبات المقدسة!

جهل لا سبيل لتبديد ظلامه إلا من خلال نظام تعليمي قوي قادر على بناء الإنسان المتحضر المتحدي، الذي هو صرح في ذاته وهو في نفس الوقت لبنة في صرح الأمة القادرة على البقاء فالتقدم فالمنافسة فالقيادة.

ولا شك أن النظم التربوية السائدة في الدول العربية تحتل موقعًا جوهريًّا في ميدان الأزمة؛ فَبَعَد أن كان سوء النظام التعليمي في تلك الدول نتاج خضوعها لسياسات الاستعمار عقودًا طويلة؛ حيث كان الاستعمار يرمي إلى تجهيل مواطني مستعمراته؛ تيسيرًا لاستعبادهم والسيطرة على مُقَدَّرَاتهم، أصبحت تلك النظم التعليمية بعد "التحرر الوطني!" مفرخًا لمزيد من التأزم الحضاري بما تنتجه للمجتمعات العربية من منتج بشريٍّ هزيل من حيث الكفاءة، ومشوَّهٍ من حيث وضوح الهوية ورسوخ الانتماء، وغير ملائم لروح التوثب الحضاري التي يجب أنْ تتسم بها أمة قررت أنْ تنهض من كبوتها.

وتتعدد مظاهر وأسباب هذا التدهور في النظم التربوية العربية، ويرجع ذلك إلى عدم وجود رؤية تربوية صالحة زمانًا ومكانًا، وغياب الإرادة المستقلة للنهوض بالأمة من خلال التعليم.

ولعل ظاهرة الاغتراب التربوي من أوضح وأهم مظاهر غياب الرؤية الواضحة في التعليم والتي تعني اختصارًا اختلاق نظام تربويّ مستورد لا يستمد فلسفته وأهدافه ومعاييره ومحتواه وآلياته ومناهجه من حالة المجتمع الراهنة وتطلعاته المستقبلية، ولا يراعي هوية الأمة المستقلة الفريدة ولا تاريخها، ولا يلعب الدور المنوط به في خدمة قضايا الأمة، بل على العكس من ذلك يحاول أن يتشرب مكوناته ورؤيته من الآخر الذي هو أقوى حضاريًّا، ويسير في ركبه على غير هدى، فيهدم مجتمعه لصالح هذا الأقوى.

وهنا تبرز خطورة التعليم باللغات الأجنبية بأشكاله المختلفة كأحد أخطر وسائل التغريب أثرًا على الهوية والحالة الحضارية والمستقبل. فمن خلال التعليم تنمىَّ مكونات الهوية الثقافية الوطنية وتُغرس القيم المعرفية والخلقية. كما أن "التعليم هو اللبنة الأولى في تشكيل وبناء شخصية الإنسان وصقلها ووضعها على الطريق الصحيحة لتساهم في عملية التنمية، لذلك فلا قيمة ولا أهمية لتعليم دون هوّية في ظل وجود ثقافات أخرى متنوعة ومهيمنة وفاعلة، باتت تلعب دورًا وتأثيرًا سلبيًّا في حجب الهوية الوطنية"

ترجع جذور التعليم الأجنبي إلى ما قبل منتصف القرن التاسع عشر، حين كانت الأمة العربية جميعها خاضعة لسلطان الدولة العثمانية التي كانت قد دخلت مرحلة الأفول، وانطلقت في رحلة التراجع الحضاري، بالتزامن مع نهضة حضارية في أوروبا ارتكزت على الأخذ بأسباب العلم والمعرفة، فيما بات يعرف بعصر العقل، وأثمرت الثورة الصناعية مخترعات وآلات وأسلحة وأعمالًا وأفكارًا ومناشطَ بشرية وعلومًا لم نكن نحن العرب سابقين إليها ولا متمكنين منها ولا ساعين بجد لامتلاكها. وانطلق قطار التقدم الغربي بأقصى سرعة!

لم يكن بزوغ التعليم الأجنبي بالتزامن مع التراجع الحضاري للمسلمين والصعود الحضاري لأوروبا والغرب مجرد مصادفة، بل إنّ الشواهد والمؤشرات تؤكد أنّ انتشاره في العالمين العربي والإسلامي، والتركيز الشديد على دول بعينها مثل مصر وسوريا ولبنان وباكستان والعراق إنما كان جزءًا من مخطط أكبر يهدف إلى مسخ الهوية في نفوس أبناء الأمة العربية والإسلامية تحديدًا، بحيث يؤدي ذلك إلى ضمان الإجهاض المبكر لأي بزوغ حضاري إسلامي أو عربي قادر على الدخول في غمار صراع أو تنافس حقيقي مع الغرب. وهو لا شك أمر يمكن فهمه في إطار تنافس الحضارات على الريادة، بما يتضمنه من خلط للطرق المشروعة بالدسائس والمؤامرات الخفية. ولقد أشارت كتابات رصينة لمفكرين اهتموا بقضية الهوية إلى هذا المخطط الذي بني حول أربعة محاور رئيسة وهي: الاستعمار، والاستشراق، والتبشير، ومسخ الهوية بتشويه الدين وإضعاف اللغة.

التعليم الأجنبي لا يعني مجرد تعليم بلغة أجنبية فقط؛ ولكنه تربية أكثر منه مجرد اكتساب لغة، وفي التربية يبث النظام التعليمي قيمه ومعتقداته وأفكاره. وإذا أضفنا إلى ذلك أن كثيرًا من المدارس الأجنبية ارتبطت بالكنائس الغربية وبالإرساليات التبشيرية، أدركنا أكثر وأكثر المغزى الحقيقي من هذا العطاء "التنويري!"، على حد زعم من مهدوا هذا الطريق وساروا فيه من البداية.

ولكن اللغة الأجنبية –التي لا غنى اليوم عن تعلمها- كانت ولا تزال إحدى الضمانات الهامة لنجاح هذا التعليم الدخيل في تحقيق أهدافه على المدى البعيد؛ حيث تلعب اللغة الأجنبية دورها في عزل المتعلم عن ثقافته ومحيطه الاجتماعي، وعن اللغة الأم التي هي لأي إنسان "عنوان لملامح الشخصية الرئيسة التي يعرف بها بين الآخرين، ... والنافذة التي تطل فيها الشخصية على تاريخها وحضارتها وقيمها وثقافتها، ولهذا إذا تخلت أمة عن لغتها، أو سمحت للضعف أو العبث أن يشوه صورتها ويهز حقيقتها فإنها سائرة إلى الاضمحلال والزوال لا محالة".

لذلك لا يمكن معالجة أزمة الهوية بمعزل عن اللغة، فاللغة هي التي "صاغتْ أوَّل هويَّة لجماعة في تاريخ الإنسان". فاللغة والهوية تتداخلان وتتماهيان خاصة في فترات الصعود والهبوط الحضاري لدرجة أنهما تكادان تصبحان شيئًا واحدًا" يُعَبِّر عن تاريخ الإنسان وتكوينه العقلي وإنسانيته الاجتماعية "فاللُّغة تحتوي طرائقَ التفكير والتاريخ والمشاعر، وإرادة الناس وطُموحاتهم وشَكْل علاقاتهم، والهُويَّة هي أيضًا هذه العناصر في كُلِّيتها وتركُّبها".

لذا ليس مستغربًا ونحن في أوج الأزمة الحضارية أن نلحظ الاقتران بين انتشار التعليم باللغات الأجنبية بأشكاله المختلفة في الدول العربية، وبين تفاقم الكثير من المشكلات الثقافية والاجتماعية والوطنية التي بدأنا نجني ثمارها الملغومة، ويبدو أنه لا يزال أمامنا موسم طويل من الحصاد. كما أننا لسنا بحاجة للقول إن انتشار التعليم باللغات الأجنبية هو في حد ذاته أحد أشكال الخضوع للهيمنة الغربية التي لا زالت واضحة الأثر على دولنا التي تحررت "شكلًا" من الاستعمار الغربي قبل عدة عقود.

يرتبط التعلم باللغات الأجنبية في العالم العربي بثلاث طرق شائعة، أولاها أن يحصل الطفل على تعليم لسائر المواد الدراسية بلغته الأم، يتخلله مقرر في لغة أجنبية أو أكثر .

والطريقة الثانية أن يتلقى الطفل تعليمًا أجنبيًّا كاملًا، من خلال المدارس الدولية مثلًا، حيث تُعَلَّم كل المواد باللغة الأجنبية المقصودة، سواء كانت الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو غيرها، وفي هذه الحالة قد يحصل الطفل على مقرر واحد ضعيف في لغته الوطنية. في هذه المدارس لا يتعلم الطالب شيئًا يذكر عن تاريخ وطنه أو التربية الوطنية المناسبة لوطنه والمستمدة من تاريخه وثقافته وكفاحه على مدى التاريخ؛ فهو نوع من التعليم عالمي المحتوى، ويعزل الطالب وجدانيًّا ومعرفيًّا ولغويًّا عن هويته منذ الصغر.

والطريقة الثالثة هي حالة وسط بين الطريقتين الأولى والثانية، وفيها يحصل المتعلم على تعليم ثنائي اللغة، أي أن بعض المواد تُدَرَّس باللغة الأم، وبعضها يُدَرَّس باللغة الأجنبية؛ ومثال ذلك المدارس ثنائية اللغة المنتشرة في العالم العربي والتي يُدَرَّس فيها باللغة الأجنبية موادًا بعينها، مثل العلوم والرياضيات - غالبًا - بالإضافة إلى واحدة أو أكثر من مواد دراسية أخرى في بعض الأحيان. وهو نوع خطير جدًّا كما سنبين لاحقًا.

تعد الحالة الأولى هي المتبعة في كثير من الدول المتقدمة التي تهتم بلغتها الوطنية والتي تحقق في نفس الوقت مستويات متقدمة جدًّا من النجاح في التربية.

أما في الطريقتين الثانية والثالثة فيتعلم الطفل بلغتين مختلفتين في ذات الوقت، وفي حالة المدارس الدولية يكون الاهتمام باللغة الأم هزيلًا جدًا؛ ويسبب ذلك حالة من القطيعة شبه التامة بين الطفل وهويته وجدانيًّا وثقافيًّا ومعرفيًّا، وتزداد خطورة هذا الوضع حين يعمد الوالدين إلى استخدام اللغة الأجنبية في البيت لترسيخ تعلم طفلهما لها مما يضيف إلى الاغتراب المبكر للطفل عن ثقافته –وكفى به عيبًا- عيوبًا في اكتساب لغته الأم نفسِها.

وقد أكدت الكثير من الدراسات اللغوية والتربوية أن الطفل لا يستطيع تعلم لغتين معًا في نفس الوقت بنفس الكفاءة؛ حيث أن لكل لغة بنيتها وخصائصها وأنه لابد وأن تطغى إحدى اللغتين عنده على الأخرى، أو أن يمتزج النظامان اللغويان في دماغه وينتجا نظامًا لغويًّا مشوهًا لا يعبر عن أي من اللغتين تعبيرًا صحيحًا تمامًا. وغالبًا ما يؤدي الاهتمام باللغة الأجنبية على حساب اللغة الأم إلى بناء نظام اللغة الأجنبية على أنقاض اللغة الأم (العربية بالنسبة لنا). مما يشوه ملكة اللغة العربية عند الطفل، ويعجزه عن التفكير الصحيح أو الإبداع مستخدما إياها، علاوة على نطق العربية بلكنة غربية، فتشكل تلك العيوب أعراض ما يسمى العجز أو الاختناق أو التدهور اللغوي للغة الأم.

إن أطفال العالم العربي يتعرضون من سن مبكرة لقصف ثقافي بلغة غير لغتهم الأم، يتمثل في لغة التواصل والتعليم في المدرسة، ولغة المعلم الخصوصي وربما الخادمة في البيت، بل ولغة الأب والأم معهم أحيانًا، ثم بعد ذلك يتواصل القصف من خلال أسماء المحلات والماركات التجارية والوجبات وموديلات كل شيء، وغير ذلك، ومن خلال لغة التواصل والبحث عبر الإنترنت، وفي التلفزيون وفي الألعاب الإلكترونية بأشكالها وماركاتها الشائعة، أضف إلى ذلك اتخاذ اللغة الانجليزية لغة للتواصل مع الباعة وفي المراسلات الحكومية، كل هذا في ظل غياب وظيفي للغة العربية؛ مما يجعل الطفل العربي ينزع إلى الاستغناء عنها في بطء خفي، هذا على مستوى الفرد، أما على مستوى المجتمع فيكون الأثر بعد عقود، ظهور جيل بعيد تمامًا عن لغته الأم في الكتابة والتواصل والبحث والإبداع والتفكير طبعاً! وحين يضطر للتواصل بها فنجده كما نرى اليوم يكتبها بحروف إنجليزية أو بعربية ركيكة!

و"كلما تضاءل دور اللغة العربية في الحياة اليومية للطفل، سلبت منها وظائفها الحياتية لصالح اللغة الأجنبية؛ فلا يشعر المتعلم بحاجة إلى لغته وينظر لها نظرة دونية"، مما يهدد باضمحلالها وموتها كما حدث في مجتمعات كثيرة. وإن كنا نطمئن إلى أن اللغة العربية محفوظة بحفظ القرآن إلا أن ذلك لا يصلح مبررًا للتكاسل عن حمايتها؛ فنحن لا نحتاجها للعبادة فحسب، بل نحتاجها لنحيا ونعتز وننهض بها؛ لأنه يكاد يكون مستحيلًا أن تنهض أمة بلغة غير لغتها، مما يستدعي الدفاع عن لغتنا العربية، دفاعًا عن وجودنا كعرب أيًّا كان دين الواحد منا، وليس فقط ارتباطًا بدين نعتنقه.

لقد أثبتت الكثير من الدراسات التي أجريت في أماكن مختلفة من العالم حول آثار وضرورات تعلم اللغات الأجنبية والتعلم ثنائي اللغة إلى نتائج تدعمها الوقائع والمشاهدات، تلك النتائج تنافي الكثير مما يذاع ويروج له في الخطاب الإعلامي، وتنافي الممارسات التي تتبناها حكومات عربية بدعم سياسي كامل، ومن تلك النتائج ما يلي:

  • أنه لا توجد فروق ذات دلالة بين من تعلموا اللغة الأجنبية من الصغر ومن تعلموها بداية من المرحلة الثانوية، من حيث القدرة على القراءة الاستيعابية، والكتابة، والتواصل، فيما عدا اكتساب اللكنة، والتي تعد أمرًا فرعيًّا حين يكون اكتساب اللكنة الأصلية للغة ثانية ثمنه فقدان اللغة الأم. ولقد أدت تلك النتيجة الثابتة بحثيًّا وميدانيًّا إلى تراجع بعض الدول عن مشاريع لتعليم اللغات الأجنبية من سن مبكرة مثل بريطانيا واسكتلندا والفلبين.

  • أنّ تعلم اللغة الأم وإتقانها منذ الصغر يخلق متعلمين أفضل، ويـــهــيــــئ بنية الدماغ لمزيد من التعلم الأفضل للغات الأخرى فيما بعد.

  • أن المتعلمين يتطورون في المجال المعرفي بسرعة أكبر عندما يبدؤون تعلمهم بلغتهم الأم.

  • أن تعلم لغتين بشكل متزامن في فترة الطفولة المبكرة يؤثر سلبًا على اللغة الأم ويشوه بنيتها في عقل المتعلم ويضر قدرة الطفل على التعلم والإبداع.

  • أن الطلاب العرب الذين يدرسون العلوم والرياضيات باللغة العربية أعمق استيعابًا للمحتوى، ولديهم اتجاهات أفضل نحو العلم، مقارنة بمن درسوا نفس المقررات باللغة الانجليزية.

  • أن النتيجة الطبيعية للتعليم ثنائي اللغة هي إحلال اللغة الثانية محل اللغة الأولى، وإحلال ثقافة اللغة الثانية محل ثقافة اللغة الأولى.

بالإضافة إلى المخاطر على الهوية وعلى كفاءة المتعلم توجد أضرار اجتماعية ونفسية لانتشار التعليم باللغات الأجنبية بشكله الفوضوي غير المنتظم الذي يحتاج كثيرًا من الضبط كما بيَّنا؛ فالمعلمون الذين يُعَلِّمُون بلغات أجنبية، سواء منهم الوطنيون أم المُسْتَقْدَمون من دول ناطقة باللغة الأجنبية، يعانون إحباطات شديدة بسبب الفشل التعليمي الناتج عن الاهتمام الشكلي بالتعليم والذي يتعاظم أثره السلبي عند التعليم بلغة أجنبية، والذي من مظاهره تسطيح المحتوى كي يكون سهل التحصيل من الطلاب دون تعمق، وهو سمة سائدة أساسًا في النظم التعليمية العربية، يُعَزِّز هذا الفشلَ عدمُ جاهزية كل الطلاب للتعلم باللغة الأجنبية؛ فاختيار الطلاب لهذا النوع من التعليم لا يتم وفق اختبارات ومعايير مضبوطة، فليس كل الناس لديهم القدرة على تعلم اللغة الأجنبية بنفس الكفاءة، فكيف يكون الأمر عند استخدامها كلغة تواصل لتعلم محتوى دراسي له تحدياته النوعية. كما أن الفوارق الكبيرة في رواتب المعلمين ثنائيي اللغة والمعلمين الأجانب مقارنة بالمعلمين باللغة العربية يُحْدِثُ فجوة كبيرة إن لم تؤثر سلبًا على المعلم الذي لا يتقن إلا اللغة العربية، فهي كفيلة بتأكيد النظرة الدونية للغة العربية. وحتى الطلاب لوحظ أنه ينشأ بينهم نوع من الطبقية المقيتة مرتبطة بأن منهم من يجيد اللغة الأجنبية ويتعلم بها ومنهم من يعجز عن ذلك لأسباب إما اقتصادية أو معرفية أو كليهما معًا.

كما أن التعليم باللغات الأجنبية بالطريقة التي يُقَدَّم بها قد ينطوي في أحد أركانه على تلاعب بمشاعر أولياء الأمور الساعين لتحصيل تعليم أفضل لأبنائهم، على عكس الحقيقة في كثير من المدارس، وبمشاعر المعلمين الساعين لتحصيل فرصة وظيفية أفضل دخلًا، مما يجعل التعليم الأجنبي في عمومه ترسيخ لفكرة الانبهار بالآخر، واستغلال مادي للأسرة، وشكل من أشكال الاتجار غير الشريف باستغلال الحالة الحضارية المتردية. ومثلما يتربح البعض من أوجاع وطنه في الحروب، يتربح الكثيرون من آلام التأزم الحضاري للوطن!

إننا بحاجة إلى إجراء المزيد من الدراسات التى تتقصى أشكال التعليم بلغات أجنبية، وأَفْضَلَ نُظمه وممارساته، فلا يصح أن تُتْرَك الأجيالُ حقلًا لتجارب يؤثر فشلُها سلبًا على مصير الأمة بأكملها، ويجب ألا تُطَبَّق نظرية ما في هذا الشأن قبل أن تستقر البحوث على نتائج راسخة ومقنعة. وبالأجدى أن نبحث عن سبيل لتعليم اللغات الأجنبية بآلية لا تؤدي إلى تراجع اللغة الأم. أقترح في هذا الاتجاه تأجيل دراسة اللغة الأجنبية كمقرر مستقل إلى نهاية المرحلة الابتدائية، ثم من المرحلة المتوسطة بالتزامن مع مواصلة تقديم مقرر اللغة الأجنبية وفنونها، يبدأ تقديم مقرر قراءات متنوعة باللغة الأجنبية يتناول مجالات دراسية مختلفة، فيكون فيه موضوعات أساسية من العلوم والتاريخ والجغرافيا والتكنولوجيا وغيرها؛ بحيث يطالع الطلاب نصوصًا مركزة تتناول المفاهيم الأساسية والأفكار الكبرى المناسبة لعمرهم في كل المواد الدراسية، مما يجعل ربطهم بالبحث والمطالعة في هذه المجالات مستقبلًا، أمرًا يسيرا.

كما يجب على أهل اللغة، وحماة الهوية ورجال الفكر والسياسة أنْ يُفَجِّروا الاهتمام بهذا الشأن، وألا يتراجعوا عن ضرورة دفع الأمور في الاتجاه الصحيح؛ وهو اتجاه حماية الهوية العربية باعتباره أولوية قصوى، ورفع وعي العامة والخاصة بهذه القضية، ووضع السياسات والتنظيمات الكفيلة بالدفع في هذا الاتجاه الجوهري لأمة تسعى لأن تستعيد صحوتها.

لا شك أن من تعلَّم لغة قوم أمِن مكرهم، كما أن تعلم لغة أو لغات أجنبية حق لكل إنسان، فضلًا عن أنه مَيْزة تمنحه القدرة على التواصل الفاعل في زمن وصل فيه التداخل والتفاعل بين الأمم مستوى غير مسبوق عبر وسائل الاتصال والتواصل والإعلام كالقنوات المفتوحة والإنترنت، كما أنها تعطيه أفضلية الحصول على وظائف أفضل وتجعله أكثر قدرة على استيعاب العالم والاندماج في حراكه بفاعلية أكبر. ولكن القضية ليست في وجوب تعلم اللغات الأجنبية من عدمه، فهذا الوجوب أمر محسوم ولا خلاف فيه، إنما القضية هي كيف نجعل تعلم اللغة الأجنبية وسيلة وليس غاية، كيف نجعله إضافة للمواطن العربي وليس خصمًا من عروبته وهويته.

لكي نفعل ذلك يجب أن نعيد التفكير في إجابات أسئلة مثل: كيف نُدَرِّس اللغات الأجنبية؟ ومتى ندرسها؟ وما حدود الوقت المتاح لها والمحتوى الأنسب لها والأهداف المرجوة من تعلمها؟ ولمن نوكل مهمة تعليمها؟ والسؤال الأهم هو كيف نهيئ كل الظروف التعليمية لتجعل من تعلم اللغة الأجنبية نجاحًا للمتعلمين العرب وللنظم التعليمية العربية وليس تهديدًا لبقائنا؟


0 comments

Recent Posts

See All

عقلية النمو

عزيزتي الأم، عزيزي الأب ... كلم ابنك كثيرا عن الفروق بينه وبين قريبه أو جاره أو صديقه في الصف الذي يجيد حفظ القران وتلاوته، أو هذا الولد...

Comments


bottom of page